الخميس، 13 يونيو 2013

طرائف و عِبَر عن التعليم و التعلّم بقلم / محمد عيدروس علي السليماني


طرائف و عِبَر عن التعليم و التعلّم 


بقلم/ محمد عيدروس علي السليماني
Mohammad.aidrus@gmail.com 

صورة محمد عيدروس من ارشيف مركزقوبان الرمضاني 2012




1. الفلاحون يذهبون إلى الحقل كل صباح:


في حوالي عام 1982 كانت الحكومة تقوم بعمل دراسة للجدوى الاقتصادية لإنشاء طريق اسفلتي من نصاب إلى بيحان , و أيامها كنت في بيحان في عامي الأول مديرا " لمشروع تطوير وادي بيحان الزراعي " . و قد زار وادي بيحان من أجل دارسة الجدوى للطريق خبيراً بريطانياً و يرافقه مترجماً من أبناء محافظة عدن . و كان المترجم هذا قد قضى اكثر من عقدين من حياته معلماً في المدارس الابتدائية في عدن . و بحكم الأهمية الزراعية لوادي بيحان , فقد نلت نصيباً كبيراً من أسئلة الخبير هذا , و كان المترجم يترجم ما يدور بيني و بينه للحضور . و من ضمن ردودي على أسئلة الخبير كان تأكيدي له بأن في بيحان قطاع زراعي مهم بفلاحيه ومزارعه . و قد لاحظت انبهار المترجم بما ذكرته عن الفلاحين و المزارع ، ( بالنسبة له فهي " حقول " كما كان يعلمها للتلاميذ ) .
و بعد إن أنتهى الخبير مني , إذ بي أفاجأ بالمترجم يسألني قائلا : " يعني في بيحان فلاحين و حقول " فأجبته بالإيجاب , فأردف متعجباً : " يعني أن الفلّاحون يذهبون إلى الحقول كل صباح ".
و كما يبدو فإن المترجم هذا قد قضى العديد من سنوات عمره يعلم التلاميذ عن الحقول و الفلاّحين و ذهابهم إليها كل صباح, و هو لم ير لا حقلاً و لا فلاّحاً طيلة تلك السنوات .



2 . و لا كلمة في الكتاب إلا و تقراها:


في حوالي عام 1984 كنت أقود السيارة بمفردي متجهاً من بيحان إلى عتق ، و في نقطة السليم و جدت رجلا مقرحياً " من قبيلة المقارحة العولقية " فأركبته, فقد كان يريد الوصول إلى رمه ، ( أحد مناطق المقارحه ) .
و بالمناسبة ففي عروقي تجري دماءاً مقرحية من جهة أخوالي ، و كان الرجل هذا يسمع عني إنني في النقوب ( حيث يقع مقر المشروع , كما و رد في الطرفة السابقة ) ، و إنني في موقع مهم , لكنه لا يعرف بالضبط ما هو , و يعلم ايضاً إنني قد نلت نصيبا كبيرا من التعليم. و خلال سفرنا تبادلت الحديث معه في أمور عديدة ، و كان من بينها إن سألني متعجبا : " قالوا إنك متعلم " ، فأجبته : " بأن فوق كل ذي علم عليم " , فأضاف قائلا : " و أنا أذكر النبي و أنا صلي عليه.. هو ما كلمة في الكتاب ( الرسالة ) إلا و تقراها " .
و كان هذا مبلغ اعتقاده عمّن كثر تعلّمه, و أنه بعبارته تلك لم يرد أن تصيبني العين .


3. كلية عدن:


في 12 يناير من عام 1953 افتتحت السلطات البريطانية في عدن ما عرف بـ " كلية عدن " للتعليم الثانوي ، وكانت الدراسة فيها أربع سنوات ، أي ما يعادل اليوم من صف ثامن إلى الثاني الثانوي ثم سنتان إضافيتان اختياريتان ، و كانت منارة تعليمية حقيقية تخرج منها أوائل المثقفين و المتعلمين العدنيين و ابناء المحميات ، و كان التعليم و التجهيزات فيها على النمط الغربي ، فكان فيها مدرسون ممتازون من عروق مختلفة و مختبرات مجهزة بالكامل و مكتبة كبيرة و ساحات للعب و الرياضة و مسرح و مسجد و صالة للفنون الجميلة .
و كانت لغة التعليم اللغة الانجليزية, وصمم التعليم فيها ليعد الطلاب لنيل شهادة الثقافة العامة البريطانية , و من ينجحون في المستوى المتقدم منها تتاح لهم الفرص للدراسة في الجامعات البريطانية في مختلف التخصصات ، و كان الملتحقون بها من أبناء مستعمرة عدن بدرجة رئيسية , و يتاح 60 مقعداً سنوياً للطلاب من محمية عدن الغربية و محمية عدن الشرقية .
و لكون والدي يعمل في إدارة المعتمد البريطاني بوظيفة مساعد ضابط سياسي ثان, فقد تمكن من إلحاقي بها في حوالي عام 1966.
و الحقيقة أن الدراسة لم تنتظم فيها بسبب الإضرابات التي كنا نقوم بها ضمن إطار " اتحاد طلاب الجنوب ", تماشياً و انسجاماً مع حركة الكفاح المسلح ضد الاحتلال البريطاني التي قامتا بها الجبهة القومية و جبهة التحرير ، و أستمر الحال حتى انسحاب القوات البريطانية من عدن في 30 نوفمبر 1967م ونيل الجنوب لاستقلاله عن بريطانيا * . وبعد الاستقلال مباشرة ألغي المنهج الغربي فيها , و أستبدل بالمنهج المصري عوضاً عنه فيها و في كل المدارس الثانوية .
خلال عمر الكلية تم العبث باسمها, فتغير عدة مرات على حسب الظروف السياسية فكان اسمها تارة " كلية البيومي" و تارة "ثانوية عبود" و تارة"ثانوية مدرم".
*: أنظر : http://adencollege.net/html/body_college_history.html



4. مغفل... ما بتعرف تكتب إنجليزي:


في حوالي عام 1965م تقريباً كنت في الصف الثاني المتوسط في المدرسة المتوسطة في الشيخ عثمان -عدن, و كان تعليم اللغة الإنجليزية يبدأ من الصف الأول المتوسط ( يعادل الصف الخامس اليوم ) .
و يبدو أنني لم أكن أعر هذه المادة الاهتمام اللازم ، ففي أحد الأيام إذ بالمدرس يخبرنا بأنه سيكون لدينا اختبار في الإملاء فيها ، و خلال الاختبار أملى علينا مقاطع قصيرة مثل : " The boy went to the school" " ، و لم أدر ما أفعل! ، فكتبتها بحروف عربية ( ذا بوي ونت تو ذا سكول) .
و لم اعرف أن المدرس يقف خلفي واقفاً و يقرأ ما كتبت ، فإذا به يصفعني على قفا رأسي صفعة قوية و يقول بصوت عالٍ أمام تلاميذ الصف : " مغفل... ما بتعرف تكتب إنجليزي ". و كان المدرس حضرمياً و يبدو من لكنته تلك أنه تعلم في السودان .
و في الحقيقة فإنني لم أعد أتذكر أسمه, لكن صفعته و كلماته بقيت معي طوال حياتي .



5 . مشكلتي مع الرياضيات , و زميلي "إنصاف":


في عام 1968م ( أول عام بعد استقلال الجنوب عن بريطانيا ) ، تم تغيير المنهج الدراسي في المدارس الثانوية من اللغة الانجليزية إلى اللغة العربية , و اختارت حكومة الاستقلال المنهج المصري في كل المواد ( أنظر الفقرة رقم 3 عن كلية عدن ) . حينها كنت في الصف الأول الثانوي في " كلية عدن " ، وكان جاري في الصف زميل أسمه " إنصاف " من ابناء مدينة التواهي , و لم أره منذ عام 1971 م ، عندما افترقنا بعد إكمال المرحلة الثانوية .
هنا لا بد أن أشير أن حالي في الرياضيات كان مثل حالي في مادة اللغة الانجليزية , فكنت شارد الذهن خلال شرح المدرس , و كانت نتيجتي في الرياضيات في الفصل الأول بالكاد وصلت 48% . و في بداية الفصل الثاني , كنت و زميلي " إنصاف " نراجع حلول بعض التمارين عن نظرية فيثاغورس , و هي أحد النظريات المهمة في حساب المثلثات , فإذا بـ" إنصاف " يسألني مستغرباً كيف توصلت إلى حل أحد التمارين , و كان حلاً خاطئاً بالطبع .

فأخذ يشرح لي ببساطة تلك النظرية , ثم أخذت أحل بعض التمارين بشكل صحيح بناءا على شرحه لي . فكانت تلك الالتفاتة من " إنصاف" بمثابة المفتاح الذي فتح مغاليق عقلي لمادة الرياضيات, بسبب شرودي الذهني , و أنتهى الفصل الثاني فحصلت على نسبة 82% تقريبا ، و أستمر أثر " إنصاف " في و تحول إلى شغف بالرياضيات في ما تبقى من سنوات المرحلة الثانوية , فأوصلني ذلك إلى أنه في امتحان الثانوية العامة 1970/1971 م (ثاني دفعة للثانوية العامة بعد تعريب المنهج ) لم تنقص علي إلا درجتان و نصف من العلامة الكاملة في جميع فروع الرياضيات ، فجزاء الله " إنصاف " خيرا حيثما كان اليوم .

6. كيف حصلت على منحة إلى أمريكا:


في شهر يونيو 1979 حصلت على درجة الماجستير في الزراعة المروية من جامعة " ولاية يوتاه الحكومية " في الولايات المتحدة الأمريكية ، بعد أن حصلت على منحة من منظمة الأغذية و الزراعة (FAO) التابعة للأمم المتحدة عبر احد مشاريع وزارة الزراعة و الاصلاح الزراعي وسافرت للدراسة في سبتمبر من عام 1977م ، و كنت دائماً ما اُسأل كيف تمكنت من الدراسة في أمريكا في ذلك الحين ؟ و كان للسؤال سببين ، أولهما إن الناس تستغرب أن تقبل أمريكا طلاباً من اليمن الجنوبي الماركسي ( في ذلك الحين كنت المبتعث الثالث تقريباً إلى الدول الغربية من وزارة الزراعة و الاصلاح الزراعي عبر منح من الأمم المتحدة) , و الثاني إنني من اسرة معروفة بتضررها المباشر من نظام حكم الحزب الاشتراكي, سوى في تغييب والدي في عام 1972 م مع العديد من القيادات المجتمعية في محافظة شبوة , أو في تأميم أراضينا الزراعية ، و كنت قد عملت مع وزارة الزراعة بعد تخرجي من جامعة طرابلس في ليبيا في عام 1975 كمهندس زراعي في دلتا تبن- لحج ضمن أحد المشاريع الممولة من الأمم المتحدة .
و لأن انتمائي الاجتماعي غير معروف للسلطات الحزبية في محافظة لحج , ( حيث يستلزم حصولي على المنحة, الحصول على توصية منهم ) , إلى جانب أن سمعتي العملية يعلمون بها, فقد حصلت على تلك التوصية , فكان أن حصلت على الموافقة على المنحة المذكورة في شهر يونيو 1977, و استكملت جميع إجراءات القبول من الجامعة و السفر في شهر سبتمبر 1977, و تخرجت في شهر يونيو 1979.


7.التعلّم في أمريكا و العرب و ( إسرائيل ) :


عندما وصلت إلى مدينة " لوجان " من ولاية يوتاه في شهر سبتمبر 1977م ( أنظر الفقرة السابقة ) , فرحت كثيراً, فقد وجدت هناك الدكتور عبدالرحمن بامطرف (رئيس جامعة حضرموت الأسبق ) ، الذي كان يدرس أيضا لشهادة الماجستير , وقد حصل على المنحة من الجمهورية العربية اليمنية حيث كان مقيماً هناك و لم نكن قد ألتقينا من قبل .
و عندما بدأت أتعرف على الطلاب العرب و معظمهم كانوا من السعودية و العراق و فلسطين و عدد قليل من الأردن , حذرني البعض منهم بأن رئيس القسم و الذي سيشرف على بحثي , يزور إسرائيل كل عامين للأغراض البحثية فربما بسبب ذلك يحمل ضغينة ضد العرب ، و كان هذا الرجل أمريكياً مسيحياً من طائفة مسيحية حديثة التكوين تسمّى " المورمن " .
و في الحقيقة فإنني لم أجد من هذا الرجل أي تحيز بل التشجيع و المساندة خلال فترة دراستي , و قد درسني مادة تسمى " فيزياء الأراضي ".
و بغية اكتساب ثقته بي كعربي , فقد كنت أجلس في الصف الأول أمام طاولته بالضبط في الاختبارات الدورية , كي أثبت له بأنني طالب جاد و حتى يكوّن فكرة طيبة عن العرب ... هكذا .
و في الامتحان النهائي للمادة تلك , جئت كعادتي و جلست في مكاني المعتاد .. أمامه , ففوجئت به يقول لي : " علي .. اذهب إلى الصف الأخير " , و بدلاً مني أحضر من الصفوف الخلفية عدداً من الطلاب الأمريكيين اللذين يشك أنهم يغشون , و أجلسهم في الصف الأول حتى يراقبهم عن قرب لكي لا يغشوا .



8. الأبحاث العلمية في الجامعات الغربية:

الأبحاث العلمية في الجامعات الغربية ليست ترفاً , أو شرطاً للحصول على درجة ما فقط ، بل عادة ما تكون ضمن برامج وطنية أو إقليمية لدراسة مشكلة ما , وهم يستخدمون طلاب الدراسات العليا الوافدين و الأمريكيين على حد سواء للقيام بها ، و لم أدر بهذه الحقيقة إلا في عام 1983م ، أي بعد أربع سنوات من تخرجي .
كان بحثي هو عن اختبار إنتاجية أربعة من أصناف الشعير المعروفة في الولاية تحت ظروف تحاكي الجفاف و خصب الأمطار و ما بينهما ، و كانت طريقة الري قد صممها البروفسور المشرف على بحثي من قبل لتؤدي ذلك الغرض , و قبلي طبّقت هذه الطريقة على محاصيل أخرى ليس بينها الشعير .
و للحصول على نتائج مرضية كرر البحث في مزرعتين بدلاً عن موسمين .
المهم تخرجت و نلت الشهادة ، و في عام 1983 م ، أي بعد أربع سنوات من تخرجي , كنت في زيارة لإدارة الأراضي والمياه في منظمة الأغذية و الزراعة التابعة للأمم المتحدة و التي تقع في مدينة روما الإيطالية, و بينما كنت في مكتبة الإدارة تلك , أقلّب رفوف الكتب و التقارير عن مواضيع الري و المياه و المحاصيل , إذ بعنوان تقرير كبير باللغة الانجليزية يلفت انتباهي , و أعتقد أن عنوانه كان (بما معناه باللغة العربية ) : " إنتاج المحاصيل في الغرب الأمريكي تحت ظروف الجفاف ".
فأخذت أقلب صفحاته, فإذا بي أجد فيه ملخصاً عن بحثي , مع ملخصات عن بحوث عديدة من ولايات الغرب الأمريكي : كاليفورنيا, أريزونا, يوتاه, و نيفادا .



عن : مجلة ميفعة ، العدد 12 ، ريع أول 1434 هـ ، يناير 2013 م
هل أعجبك الموضوع ؟

هناك تعليقان (2) :

عتق نيوز جميع المواد محفوظة ، يسمح النقل بوضع رابط المصدر